تشهد المدن في جميع أنحاء العالم مشاريع ضخمة للتجديد العمراني بهدف الاستفادة من الزخم الناجم عن جائحة فيروس كورونا. في الشرق الأوسط، يسعى مشروع الدار البيضاء لتطوير “نهر أبي رقراق” لجعل الرباط وجهة رئيسية للمستثمرين والسياح والأثرياء. ويعد مشروع مثلث “ماسبيرو” في القاهرة من المشاريع الضخمة الهادفة لإعادة توطين الأحياء الفقيرة، وإعادة تسكين المواطنين في الجيوب المبنية حديثًا خارج المدينة، في حين سيتم استبدال أحيائهم بمشروع راقٍ متعدد الاستخدامات. وهناك مشروع “العبدلي”، وهو مشروع حصري متعدد الاستخدامات يتألف من أبراج زجاجية شاهقة الارتفاع في قلب عمان. لا يوجد في منطقة الخليج مدينة تجسد هذا أكثر من جدة في المملكة العربية السعودية. تعرف المدينة بالقول المأثور “جدة غير”، وهي تشرف على الشواطئ البكر للبحر الأحمر. في عام 2010، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به. في الواقع، طرح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مؤخرًا مشروع “وسط جدة” الضخم بقيمة 20 مليار دولار، والذي يعد بتطوير المعالم الرئيسية والعروض الثقافية. ولكنه ينطوي كذلك على هدم أحياء بأكملها، مع نزع ملكية السكان للكثير من الممتلكات، الأمر الذي دفع السكان في المناطق المتضررة للانخراط في شكل نادر من أشكال المقاومة، من خلال الكتابة على الجدران وحملة على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع أن مشروع وسط جدة ما يزال في مراحله الأولى، إلا أنه من الممكن الاعتماد على الدروس المستفادة من مشاريع التجديد الحضري الأخرى للتركيز على التطوير الحضري الشامل لما فيه فائدة للجميع بدلاً من إفادة قلة مختارة.
في يناير/كانون الثاني 2006، أعلن العاهل المغربي الملك محمد السادس عن إطلاق مشروع إعادة تطوير وادي أبي رقراق الذي سيصبح أكبر مشاريع التجديد الحضري في تاريخ البلاد. ويقع بين الرباط والمدينة الشقيقة سلا، وهي الركن الأساسي في الجهود الملكية لإعادة تصنيف الرباط على أنها “مدينة النور” و”العاصمة الثقافية للمغرب”. والهدف هو زيادة قدرة الرباط على المنافسة بين كبريات المدن الحديثة المعولمة. مساحة المشروع هائلة، تمتد تقريبًا على ما يزيد عن 26 ميلاً مربعًا، وتتألف من مزيج من المرافق السكنية والثقافية والسياحية الراقية. وفي حين تم تصوير التطوير على أنه وسيلة للارتقاء بالمدينة، وتحسين حياة سكانها من خلال خلق فرص عمل، إلا أنه تعرض للانتقاد لمحابته المستثمرين الأثرياء، وإعطاء الأولوية للأرباح على حساب سكان المنطقة الأصليين. يجادل الباحث الحضري كونراد بوجارت (Koenraad Bogaert) بأن “النتيجة ليست استبدادية أقل، وإنما هي استبدادية بوجه مختلف: مؤسسات جديدة وأساليب تخطيط جديدة وعلاقات سلطوية (عالمية) جديدة”.
يتم اتباع نهج مماثل في التطوير المستمر لمنطقة وسط البلد في القاهرة بمصر. يضم حي مثلث ماسبيرو، الواقع على ضفاف النيل، مستوطنة عشوائية ضخمة ونسيجًا حضريًا كثيفًا وبعض المباني التاريخية التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر. على طرف هذا المثلث يقف مبنى الإذاعة والتلفزيون الضخم الذي تم بناؤه في الستينيات. مع مرور الوقت، قام السكان الذين لا يملكون مستندات رسمية بالبناء على الأراضي الشاغرة في وسط المثلث، وأصبحت تدريجيًا جزءًا من التراث المعماري والثقافي للقاهرة. وأصبحت المنطقة، التي تأخذ شكل الإسفين وتبلغ مساحتها 75 فدانًا، مأوي لـ 20 ألف من السكان. في عام 2018، بدأت الحكومة بإجلاء السكان قسرًا بقطع المياه والكهرباء، حتى تم في نهاية المطاف تسوية المنطقة بالأرض بشكل كامل. تم وضع الخطط لتطوير المساحات الجديدة للسكن والتجارة والبيع بالتجزئة، بما في ذلك الأبراج الشاهقة ومركز تجاري راقٍ، مع نقل أغلبية السكان ذوي الدخل المنخفض إلى مجمع الأسمرات السكني في ضواحي القاهرة. في الواقع، تم هدم منطقة كان من الممكن الحفاظ عليها بعناية للإبقاء على شريحة مهمة من التراث العمراني للقاهرة، الأمر الذي دفع أحد المقيمين في القاهرة منذ زمن بعيد للتحسر قائلاً، “لماذا ندمر ما صنعنا؟”
وكان لعَمان في الأردن نصيب من مشاريع التطوير الهائلة. تعد منطقة العبدلي منطقة أعمال مركزية جديدة مرغوبة بشدة. يتم تطوير المشروع من قبل شركة موارد، وهي شركة استثمارية مملوكة للدولة تربطها صلات قوية بالجيش الأردني؛ وشركة مشاريع الكويت، ومجموعة هورايزون التي يملكها بهاء الحريري، نجل رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الذي تم اغتياله. يوفر المشروع 10 آلاف وظيفة ويضم أكثر من 460 وحدة أعمال تجارية، بما في ذلك مكاتب لشركات متعددة الجنسيات، مثل أمازون وهواوي وإل جي وبيجو، بالإضافة إلى 1200 غرفة فندقية و720 من الوحدات السكنية. يتضمن المشروع شارعًا عريضًا للمشاة يُقصد به أن يكون بمثابة “العمود الفقري” للمنطقة التجارية الجديدة، مع مركز للتسوق في الهواء الطلق ليستمتع به جميع السكان. كما يُقصد به أن يكون حلقة وصل بين وسط البلد الصاخب، ولكن المتواضع، وبين منطقة الشميساني السكنية الراقية وذات الخدمات المصرفية. يحظى المشروع بدعم حكومي قوي – وشدد الملك على ضرورة الاستفادة من هذا العمل الناجح، مشيرًا إلى أهمية تشجيع مختلف الاستثمارات المحلية والأجنبية لخلق المزيد من فرص العمل. ومع ذلك، تعرض المشروع للانتقادات، بما في ذلك من الأمم المتحدة، التي أصدرت تقرير “التحضر وتغير طابع المدينة العربية” الذي تناول قضية العبدلي. وشدد على أن “ثمة حاجة ماسة لمزيد من التفكير المتكامل الذي يتجاوز إيجاد جزر من المناطق المتطورة تحيط بها الطرق الرئيسية السريعة”. وتساءل التقرير عما إذا كان نموذج التنمية “الراقي” هو النموذج الأنسب الذي يجب اتباعه. ووصف مقال في الفايننشال تايمز هذا التطور بأنه “راقٍ بشكل جريء”. وعلى نحو مماثل، أشار المهندس المعماري والباحث الأردني رامي فاروق ظاهر إلى أن “إعادة الهيكلة الحضرية الليبرالية الجديدة” هذه تؤدي إلى مناطق جغرافية تفتقر للمساواة، ومساحات من الإقصاء الاجتماعي تؤدي إلى نزوح كبير للمجتمعات الحضرية ذات الدخل المنخفض. تم بناء هذه المشاريع الحصرية للغاية على حساب الموارد المائية والمساحات الخضراء، وتعمل على طرد الفقراء باتجاه أطراف المدينة، إلى مواقع مهجورة بعيدة عن المرافق التجارية والاجتماعية وتحتاج إلى بنية تحتية.
لا تقتصر مثل هذه التطورات على المنطقة العربية فقط. فهناك أمثلة أخرى تشمل كينجز كروس في لندن وهدسون ياردز في مدينة نيويورك و مخططً حضري هائل على امتداد الواجهة المائية في بلجراد. وفي حين أن التطوير الحضري لا يعد خطأً بطبيعته، إلا أن هنالك حاجة أيضًا للنظر في الشمول، والتأكد من أن مثل هذه المشاريع تحترم السكان المحليين وبشكل هادف.
تخضع المراكز الحضرية في السعودية لمخططات تحديث مختلفة تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما تم تحديد الرياض عاصمة للمملكة. كان هذا إيذانًا بدخول عصر الاستثمار في مشاريع البنية التحتية الحضرية الضخمة، وبناء أحياء جديدة ومبانٍ حكومية حديثة. أطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مشروع “وسط جدة”، الذي عُرف في البداية باسم “وسط البلد الجديد في جدة” في عام 2021 بتكلفة تقدر بـ 20 مليار دولار. من المقرر أن يعمل المشروع على تطوير أكثر من 2 ميل مربع من الأراضي المشرفة على البحر الأحمر. ويتم تمويله من قبل صندوق الثروة السيادية في السعودية، وصندوق الاستثمارات العامة، ومستثمرين محليين ودوليين. سيضم وسط جدة دارًا للأوبرا ومتحفًا وملعبًا ومعرضًا للكائنات البحرية وفنادق ضخمة ومطاعم ومواقع لبيع التجزئة و17 ألف وحدة سكنية. ستُعطى الأولوية للمساحات المفتوحة والمناطق المخصصة للمشي والخدمات العامة، والتي ستشكل 40٪ من إجمالي مساحة المشروع. كما تهدف الخطة الرئيسية للمشروع إلى دمج التقنيات الجديدة لتحويل جدة إلى “وجهة ذكية” وتنفيذ برامج مستدامة. المرحلة الأولى التي من المقرر استكمالها بحلول عام 2027، سوف تتركز على الواجهة البحرية التي ستمتد إلى ما يقارب من ستة أميال، وتشتمل على مرفأ وشاطئ بطول 1.3 ميل ومنتجعات وكورنيش. ومن المقرر أن تستكمل المرحلة الثانية بحلول عام 2030، وسوف تشمل المساحات الخضراء والموارد التعليمية الإبداعية ومسجدًا يجمع بين التصميمات الحديثة والتقليدية، ومكتبة وخليجًا مرجانيًا ومتحفًا مجهزًا بالتكنولوجيا الذكية. وسوف تعمل المرحلة الثالثة، ما بعد عام 2030، على إضافة مرافق الرعاية الصحية ذات المستوى العالمي، ومنطقة تتمحور حول الإبداع والثقافة.
لطمأنة السعوديين بأن المشروع لن يكون نسخة طبق الأصل من التطورات التي تحدث في جميع أنحاء العالم، أوضح مخططو مشروع وسط جدة أن “تاريخ المدينة الغني وهويتها الثقافية المتميزة كانا مصدر إلهامهم، مع الإشادة بتنوعها المعاصر، والاعتراف بإمكاناتها المستقبلية كوجهة عالمية”. ولتحقيق هذه الغاية، فهم يخططون للحفاظ على المعالم القائمة وتجديدها وإعادة توظيفها، مثل محطة معالجة المياه القديمة بالمدينة والمستشفى الحكومي وملعب كرة القدم. وبحسب التصريحات الرسمية، سيتم تحويل محطة معالجة المياه إلى متحف يعرض التراث الصناعي للمملكة وعلاقته بالبحر. يعد معرض الكائنات البحرية أحد عوامل الجذب الرئيسية لمشروع التطوير، وسيكون بمثابة مهرجان للبحر الأحمر وبيئته الطبيعية ومحيطه والحياة البحرية فيه.
ذكر المهندس المعماري السعودي مساعد الغامدي، أن مشروع التطوير، بما يحويه من وسائل الراحة ومعالم الجذب السياحي، سوف يأتي بالمزيد من الإيرادات للمنطقة. ويعتقد أن المشروع سيوفر السكن لتلبية احتياجات المهنيين الشباب وتحسين مستويات المعيشة لسكان جدة برمتها. على الرغم من هذه الآراء المتفائلة، ثمة مخاوف بأن الهدف الحقيقي هو الربح المالي وجذب الاستثمار الخارجي وتلبية احتياجات العملاء العالميين. وتشير التقارير الأخيرة إلى أنه من المتوقع أن يضيف مشروع وسط جدة 12.5 مليار دولار إلى اقتصاد المملكة بحلول عام 2030. بالتأكيد، هنالك أهمية لتسليط الضوء على الفوائد الاقتصادية، ولكن من المهم أيضًا مراعاة الأثر الاجتماعي لهذه المشاريع، ومدى إسهامها في المشهد الحضري الشامل.
تفتقر المناقشات المتعلقة بمشروع وسط جدة لخطط توفير خيارات الإسكان بأسعار معقولة – ليس في شكل مناطق نائية في ضواحي المدينة، وإنما كجزء لا يتجزأ من المشروع. كما يجب أن تكون هناك أيضًا سياسات لضمان شمولية المساحات العامة للتطوير، وربما السماح كذلك بتنظيم الاستخدام غير الرسمي (على سبيل المثال، السماح بوجود بائعي المواد الغذائية). وفي حين يدعي المطورون أنهم سيأخذون الطابع التاريخي للمدينة وهويتها بعين الاعتبار، إلا أن ذلك يمكن أن يتحول بسهولة إلى مجرد محاكاة المظهر الخارجي للحي التاريخي، كنسخة متحجرة لتاريخ جدة لتلبية توقعات السياح والأجانب، ولكنه يفتقر لوجود التجار المحليين والسكان. لتجنب ذلك، يجب على المصممين إنشاء بيئة مستوحاة حقًا من الأسواق التقليدية في المدينة من خلال تلبية احتياجات جميع المواطنين، بالإضافة إلى الزوار. يجب عليهم الاستفادة من مشاريع أبي رقراق وماسبيرو والعبدلي، واعتبارها تحذيرًا من تحويل وسط جدة إلى جزيرة منعزلة. يجب أن يتكامل مشروع “وسط جدة” ويندمج بشكل حقيقي مع المدينة المحيطة والتطورات الجارية الأخرى لكيلا يتسبب في تفاقم أنماط عدم المساواة الحالية. يجب على السلطات في المملكة أن توازن بين الرغبة في المشهد الحضري الخلاب وبين نهج يستهدف جميع السكان وليس الأثرياء فقط، لكي تبقى المدينة مخلصة بحق لكونها استثنائية.