تعيش المجر، برئاسة رئيس حكومة اليمين القومي المتشدد فيكتور أوربان، وضعاً اقتصادياً هو الأصعب في الاتحاد الأوروبي، فنسبة التضخم وصلت إلى 22%، في الوقت الذي يتعرض ائتلاف “فيديز” الحاكم في الدولة للاتهام بانتهاج سياسات اقتصادية مدمرة للاقتصاد الداخلي، وكذلك علاقات البلد بدول الجوار في القارة العجوز.
وجد الاتحاد الأوروبي الفرصة سانحة في ظل الظروف الحالية التي تمر بها المجر “لكسر تمرد” اليمينيين، لا سيما في ظل موقف أوربان المعارض لفرض عقوبات غربية على روسيا ودعم أوكرانيا، واعتراضه المتكرر على سياسات الاتحاد، خاصة المالية.
في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري شكلت “تسوية” خاضها الأوروبيون في بروكسل مع بودابست حدثاً بارزاً في سياق ما تطلق عليه وسائل الإعلام “مكاسرة” بين الطرفين خلال السنوات التي تلت 2012 وتحول أوربان المجري إلى خطاب الشكوى من “بيروقراطية بروكسل”.
الأوروبيون يكشرون عن أنيابهم
للمرة الأولى أظهر الأوروبيون تكشيراً عن أنيابهم المالية لمحاصرة تمرد حكومة أوربان القومية المحافظة، وبشكل خاص لدفعها عن التراجع عن “الفيتو” الذي رفعته في مواجهة دعم الاتحاد الأوروبي أوكرانيا مالياً بنحو 18 مليار يورو (قبل نهاية العام الحالي) من أجل التغلب على وضعها الاقتصادي الصعب خلال 2023.
التكتيك الأوروبي في ممارسة الضغوط المالية على بودابست، وتحت عنوان “التسوية”، جاء لإثنائها عن “الفيتو” وفرض ما يسمى “الحد الأدنى للضرائب العالمية للشركات” بنسبة 15%.
التراجع المجري عن كلا الأمرين فرضه الاتفاق الأوروبي المشترك على “معاقبة” أوربان، في سابقة تمهد لطريق آخر في التغلب على تمرد بعض الحكومات الأوروبية على سياسات وقرارات بروكسل. فمن بوابة “العقوبات المالية” فرض الأوروبيون سابقة تجميد أموال مخصصة للدول الأعضاء، إن لم تستجب للاشتراطات.
فبالنسبة للمجر كانت تنتظر تمرير تحويل نحو 6.5 مليارات يورو من حزمة التعافي والإنعاش، التي أقرت بعد جائحة كورونا، لكن تملص أوربان مما يسميه الأوروبيون “سيادة القانون”، وتبدية قوانينه المحلية على الأوروبية، جعل ساسة بروكسل يحجبون المبالغ المخصصة لبلده.
وما جرى التوصل إليه في وقت متأخر من مساء الثاني عشر من هذا الشهر، تحت مسمى التسوية، يفرض على المجر تلبية 27 اشتراطاً للإفراج عن الأموال المحتجزة.
وبالنسبة لبودابست، فإن مبلغ 6.5 مليارات يورو لا يشكل سوى نحو 18% مما تحصل عليه سنوياً من الاتحاد الأوروبي، إلا أن الأوضاع الاقتصادية القاسية التي تعيشها البلد، بارتفاع جنوني للتضخم يصل إلى 22%، إلى جانب ارتفاع أسعار البنزين والطاقة في منتصف بداية الشتاء، يجعل من تلك المليارات حاجة ماسة وضرورية.
ضربة اقتصادية قاسية للمجر
الاشتراطات التي يتوجب على بودابست تلبيتها حتى مارس/آذار المقبل، لتحرير مبلغ الإنعاش الاقتصادي الأوروبي، اعتبرها عالم السياسة المجري في “صندوق مارشال” الألماني، دانيال هيغيدوس، “ضربة اقتصادية قاسية للمجر”.
ونوه هيغيدوس في تصريحات للصحف الدنماركية مؤخرا بأن نسبة التضخم الحالية في المجر هي أعلى معدل على مستوى أوروبا، بالإضافة إلى تراجع متواصل لسعر الفورنت (العملة المجرية).
يتهم الأوروبيون رئيس وزراء تحالف “فيديز” اليميني المحافظ، أوربان، بانتهاج سياسات اقتصادية ومالية “تعمق الفساد وإساءة استخدام أموال الميزانية الأوروبية”.
ومن الملاحظ في هذا الاتجاه أن دول تحالف “فيسغراد”، الذين عدوا يوماً من أنصار أوربان، في بولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا، باتوا اليوم خصوماً للرجل.
الصراع الحاصل منذ سنوات بين عاصمة مقرات الاتحاد الأوروبي، بروكسل، والبرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، جعل الكثيرين، من خلال دراسات متخصصة، يخرجون بنتيجة عن أن المجر في عهد أوربان باتت من بين أكثر الدول فساداً في أوروبا.
الأمر ببساطة يتعلق بانتهاج سياسات اقتصادية تستغل توزيع الأموال الأوروبية بطريقة فيها الكثير من المحاباة والمحسوبيات، وأغلبها تدور حول صناعة إمبراطوريات تجارية ـ اقتصادية بعطاءات معينة تتربح منها طبقة مرتبطة بصورة مباشرة بتحالف “فيديز” بزعامة أوربان، وهو ما ذكرته في وقت سابق “فايننشال تايمز” عن صديق أوربان، وأغنى رجل في المجر لورينك ميزاروس، الذي بدأ حياته “سباكا” وبات يملك إمبراطورية تجارية أسرع نمواً من “فيسبوك”.
فساد على علاقة بالطبقة الحاكمة
وتشير التقارير الأوروبية إلى أن الفساد بات على علاقة بالطبقة الحاكمة التي تستغل المال لترسيخ سلطتها وإعادة انتخابها في مناسبات عدة، بتقديم أموال ومشاريع ورفع نسبة التقاعد، وغيره، لأجل إبقاء شعبية أوربان مرتفعة.
منظمة الشفافية الدولية ذكرت مبكراً بأنه “منذ استيلاء فيديز على السلطة في 2010 والأوليغارشيون المقربون منه يستمرون في تشويه النظام المؤسسي للدولة بأكمله”، وفقاً لما ذهب إليه المدير الهنغاري للمنظمة، جوزيف بيتر مارتن في 2017.
ومنذ ذلك التاريخ استمرت الاتهامات الأوروبية لسلطة أوربان بإساءة استخدام أموال الاتحاد الأوروبي، دون أن تستطيع التأثير عليه، أو فرض شروطها عليه. فإلى جانب ذلك اتُّهم أوربان مراراً بنسف قواعد ومبادئ الاتحاد الأوروبي، ليس فقط على المستوى الاقتصادي المالي، بل أيضا لناحية إلغاء فصل السلطات وتحكّمه بها، القضائية والإعلامية والانتخابية وغيرها لمصلحة نفوذ الحزب.
منذ العام الماضي 2021 شددت مؤسسات الاتحاد الأوروبي، تحت سقف ميزانيتها للفترة الممتدة إلى 2027، على أدواتها لاستهداف الفاسدين ومسيئي استخدام أموال الاتحاد الأوروبي. إحدى تلك الآليات هي بالضبط ما جرى تطبيقه في وقت سابق من هذا الشهر، بحجب الأموال حتى إظهار تلبية لشروط بروكسل.
وخسر أوربان، وخصوصاً خلال الأزمة التي ولدها الغزو الروسي لأوكرانيا منذ فبراير/شباط الماضي، حليفه البولندي السابق في حزب “القانون والعدالة”، وتحديداً حين افترق الحليفان السابقان على خلفية العقوبات على روسيا ودعم أوكرانيا، فبينما تذهب وارسو بعيداً في إظهار تشدد مع موسكو يتهم أوربان بانتهاج سياسة مهادنة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما عجّل بمحاصرة بودابست مالياً.
الوضع الاقتصادي المجري يبدو أنه حسم “المكاسرة” مع بروكسل، ونزع من يد أوربان ما يطلق عليه في بروكسل “الابتزاز”، كما فعل مؤخراً في قضية سياسية حيوية تتعلق بانضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وكذا في قضايا عقوبات ضد روسيا.
بيروقراطية وتسلط بروكسل
إلى جانب ذلك، يبدو أن أوربان الذي علق آماله على السردية التي يسوقها أغلب اليمين المتشدد والقومي المحافظ في أوروبا، منذ آخر انتخابات للبرلمان الأوروبي في 2019، في اعتبار دولهم “ضحية لبيروقراطية وتسلط بروكسل”.
فبحسب استطلاعات معهد “العاصمة السياسية” في بودابست يعتقد أكثر من نصف سكان المجر أن مواطني الاتحاد الأوروبي يعانون من العقوبات أكثر مما يعانيه الروس.
ورغم ذلك، فإن تلك السردية تعرضت أخيراً لضربة قاسية، حين وجه رئيس البنك المركزي المجري، جيورجي ماتولسي، الموالي لفيديز الحاكم، مطلع الشهر الجاري، أمام البرلمان المجري انتقاداً للسياسة المالية في السنوات الماضية في عهد أوربان.
وشدد ماتولسي على أن الأزمة الاقتصادية منشؤها داخلي، وبأن العجز يجعل إنتاجية البلاد في رابع أدنى مستوى على مستوى أوروبا، متوقعاً بأن نسبة التضخم تصل إلى 22.5% مع نهاية العام الحالي وبأن تبلغ ما بين 15% و18% في 2023، أي ضعف متوسط النسبة في الاتحاد الأوروبي.
واستخدم أوربان الكثير من الأموال في السنوات العشر الأخيرة بحجة انتهاج سياسة اقتصادية كـ”آلية لحماية الأسر المجرية”، وتشجيع زيادة المواليد، وحددت بالدعم سقف أسعار البنزين والمواد الغذائية، واستيراد المزيد من النفط والغاز بأكثر مما كان عليه قبل أزمة الطاقة ما دفع بالتضخم، وفقاً للبنك المركزي المجري، إلى الارتفاع الكبير.
في كل الأحوال، “التسوية” التي توصل إليها الاتحاد الأوروبي لا تعني أن الأزمة الاقتصادية في المجر ستنتهي خلال الأشهر المقبلة، فالتغييرات التي أدخلها فيديز على الأوضاع الاقتصادية، إلى جانب غيرها، منذ 12 عاماً أعمق من أن يحلها 27 اشتراطاً أوروبياً للإفراج عن بضعة مليارات، وهو أيضاً ما يعتقده دانيال هيغيدوس، معتبراً أن مارس/آذار من العام المقبل سيكون موعداً آخر لمعركة التحقق من تلبية المجر الإصلاحات المطلوبة.