أعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا عن اكتشاف فريد من نوعه لقرية «النطاة» الأثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر، شمال غرب المملكة، ضمن بحث أثري جديد في إطار مشروع «خيبر عبر العصور». نُشرت نتائج البحث في مجلة (بلوس ون) العلمية، وجاء الإعلان عن هذا الاكتشاف في مؤتمر صحفي عقدته الهيئة اليوم بمركز المؤتمرات في وكالة الأنباء السعودية بالرياض.
ركز مؤتمر الإعلان على أهمية هذا الاكتشاف الأثري وانعكاسه على مجال الآثار في السعودية، خاصة على الصعيد الدولي وما تكتنزه أرضها من عمق حضاري. كما يعزز الاكتشاف من جهود السعودية في حماية التراث الثقافي والتاريخي، وعنايتها بتبادل المعرفة والخبرات مع العالم لتعزيز الوعي بالتراث الإنساني المشترك.
تعلن @RCU_SA عن التوصل إلى اكتشاف أثري في واحة #خيبر والذي يغير المفاهيم القديمة حول الحالة الرعوية في العصر البرونزي، حيث يعد هذا الاكتشاف الأول من نوعه في المنطقة من خلال قرية #النطاة التي تبرز الحياة الاجتماعية والاقتصادية خلال ذلك العصر. pic.twitter.com/P7uVI6SPnX
— الهيئة الملكية لمحافظة العلا (@RCU_SA) November 2, 2024
يؤكد هذا الاكتشاف أيضاً التزام السعودية بالحفاظ على التراث العالمي، وتعزيز التراث الثقافي وفقًا رؤية السعودية 2030، بجانب أهمية تعزيز الشراكات الدولية لتقديم هذا الإرث الغني للأجيال القادمة وللعالم. وفي إطار جهوده لتعزيز الوعي العالمي حول العلا بوصفها وجهةً عالميةً للتراث الثقافي، فإن قسم الآثار والحفظ والمقتنيات في الهيئة يتولى إدارة أحد أكبر برامج البحث الأثري في العالم، بجانب تضمين هذا الاكتشاف في بحثٍ أثريٍ جديد تمّ نشره في مجلة (بلوس ون) العلمية.
تقع واحة خيبر على أطراف حقل حرة خيبر البركاني، وتشكلت عند التقاء ثلاثة أودية في منطقة جافة، ووجدت قرية “«النطاة» في الأطراف الشمالية للواحة تحت أكوام من صخور البازلت، حيث كانت مدفونةً لآلاف السنين.
خيبر عبر العصور: مشروع للبحث في مراحل الحياة من الرعي إلى الحياة الحضرية
يبحث مشروع «خيبر عبر العصور» في الانتقال من حياة الرعي المتنقلة إلى الحياة الحضرية المستقرة في المنطقة خلال النصف الثاني من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وبذلك يغير من المفاهيم السابقة بأن المجتمع الرعوي والبدوي كان النموذج الاجتماعي والاقتصادي السائد في شمال غرب الجزيرة العربية خلال العصر البرونزي المبكر والمتوسط.
تشير الدراسة إلى أن مناطق مثل خيبر كانت مراكز حضرية مهمة تدعم استقرار مجتمعاتها بشكلٍ دائم، وخاصةً مع ظهور الزراعة فيها، فضلًا عن كونها مراكز للتجارة والتعاملات مع المجتمعات المتنقلة. وكان لظهور هذا النمط الحضري أثر كبير على النموذج الاقتصادي الاجتماعي في المنطقة.
كما تُظهر الأدلة أنّه على الرغم من وجود عدد كبير من المجتمعات الرعوية المتنقلة في شمال غرب الجزيرة العربية في العصر البرونزي، إلاّ أن المنطقة كانت تضم عدداً من الواحات المسوّرة المتصلة مع بعضها، والمنتشرة حول المدن المحصّنة مثل تيماء.
وتقدّم القرية المكتشفة دليلًا على وجود تقسيم واضح ضمن الحصون والمدن لمناطق مخصصة للسكن وأخرى جنائزية، ويعود تاريخ القرية إلى قرابة 2400-2000 قبل الميلاد وحتى 1500-1300 قبل الميلاد، وبلغ عدد سكانها 500 شخص ضمن مساحة 2.6 هكتار (25000 متر مربع)، مع وجود سور حجري بطول 15 كم يحيط بواحة خيبر لحمايتها.
جهات البحث التي شاركت في الاكتشاف
تمّت الدراسة ضمن فريق بحثي بقيادة الدكتور «غيوم شارلو»، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والدكتورة «منيرة المشوح»، مديرة المسوحات الأثرية في الهيئة الملكية لمحافظة العلا، والمؤرّخ «صيفي الشلالي» من أهالي خيبر، بالتعاون مع الوكالة الفرنسية لتطوير محافظة العلا.
بالعودة إلى أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2020، فقد تمكن فريق البحث من تحديد الموقع الأثري، لكن كان من الصعب تمييز هياكل القرية وتخطيطها. وفي فبراير/ شباط 2024، استعان الفريق بعمليات مسح ميداني وأعمال بحث مخصصة، وتصوير عالي الدقة لفهم ما يكمن تحت السطح. ومن المتوقع أن تسهم عمليات التنقيب الأكثر شمولًا في المستقبل في تقديم صورة أوضح عن الموقع.
وتشرف الهيئة الملكية لمحافظة العلا على 10 مشاريع أثرية، بمشاركة 100 عالم آثار ومختص في العلا وخيبر ليسهم الاكتشاف بترسيخ مكانة العلا والسعودية كمركز عالمي للأبحاث الأثرية والحوار الثقافي.
رحلة تاريخية إلى ملامح الحياة في قرية النطاة الأثرية
ترسم الدراسة صورة أولية لملامح حياة سكان قرية «النطاة» الأثرية، حيث كانوا يقيمون في مساكن تقليدية من عدة أدوار، وغالباً كانوا يُخصصون الدور الأرضي للتخزين، بينما كانت معيشتهم في الطابقين الأول أو الثاني.
كما كانت الطرقات بين المساكن ضيقة تقود إلى مركز القرية، وكانوا يدفنون موتاهم في مدافن ومذيلات برجية متدرجة؛ مما يشير إلى علو مكانة المدفون من خلال وضع قطعٍ ثمينةٍ في بعض المدافن، كالفخار أو الأسلحة المعدنية كالفؤوس والخناجر.
كما استخدم سكان القرية الخرز في ملابسهم، وكانوا يصنعون الفخار ويتاجرون به، ويعملون بالمعادن، ويزرعون الحبوب ويربون الكائنات الحية، إذ كان النظام الغذائي المحلي يعتمد بشكل كبير على الأغنام والماعز. كما يظهر تعاون السكان لتعزيز أسوارهم بالحجارة الجافة والطين.
يعد اكتشاف #النطاة دليل على وجود تقسيم واضح ضمن الحصون والمدن لمناطق مخصصة للسكن وأخرى جنائزية، والتي يعود تاريخها إلى حوالي 2400-2000 قبل الميلاد وحتى 1500-1300 قبل الميلاد، وبلغ عدد سكانها 500 شخص ضمن مساحة 2.6 هكتار. pic.twitter.com/xgxxXtdn3X
— الهيئة الملكية لمحافظة العلا (@RCU_SA) November 2, 2024
تُضاف الاكتشافات الجديدة إلى سلسلة من الدراسات التي بدأت منذ عام 2018 باستكشاف معالم وخبايا العلا وخيبر القديمة، تشمل المنشآت الحجرية الضخمة المعروفة باسم «المستطيلات»، والمصائد الحجرية، و«الطرق الجنائزية» الطويلة التي ربطت بين المستوطنات والمراعي عبر ممرات محاطة بالمدافن، إضافة إلى المساكن المعروفة باسم «الدوائر الحجرية المنصوبة».
تشير هذه الدراسات بمجملها إلى أن المجتمعات في العصر البرونزي في شمال غرب شبه الجزيرة العربية كانت أكثر تعقيداً وارتباطاً بالمنطقة الأوسع مما كان يُعتقد سابقًا.
ويأتي الإعلان عن اكتشاف قرية النطاة الأثرية بعد انعقاد ندوة العلا العالمية للآثار 2024، والتي أقيمت خلال الأيام الماضية، وشهدت مشاركة مجموعة متعددة التخصصات من علماء الآثار وخبراء التراث الثقافي من جميع أنحاء العالم حول موضوع «استشراف المستقبل: آثار وتراث المجتمعات المتنقلة عبر الماضي والحاضر والمستقبل».